فرادى في كومة العدد

“عدّلوا حتمية الهاوية “

أتتبع مسارا لتاريخ فكرنا حتى مباغة الحاضر، أتتبع صداما عنيفا و مشاهد مرعبة للارهاب الفكري متدثّرة في جلابيب التخوين و التكفير و التحجير حتى الافناء الجسدي بحديد مؤسسات التخوين و نار فقهائها القديمين…المتقادمين…القادمين في أقبية من المضاربات الايديولوجية و أسواق الاستبلاه و الغفلة المعرفية منتجة عنفا و مزيدا من التعصّب المذهبي و الطائفي و الحزبي مبررين أعمالا اجرامية من تقتيل و مطاردات بنصوص دينية و كأن الله وصّاهم بقتل خيرة مخلوقاته من البشر…العلماء و المفكرين…
إن مطاردة الذوات المفكرة و افتراس العقل و مجمل منتجاته جعل من تاريخ الثقافة العربية الاسلامية تاريخ ميليشيات فكرية مسكونة بهاجس الابادة حتى أن “كل من يشتغل بالفلسفة و التنجيم إلا ورمي بالزندقة و ربما طولب في دمه ” هذا ما يذكره المقرّي مثلا في كتابه “نفح الطيب ” و هو يؤرخ لهذه المرحلة.
أو لم يسجن ابن رشد و هو شيخ في آخر أيامه حيث هجاه أحد الشعراء بقوله ” ابن رشد قد حاد عن رشده ” أو لم تحرق كتب المعتزلة …أو لم يصلب الحلاّج صاحب كتاب الطواسين…فمصادرة الحرية الفكرية هي من الثوابت الأساسية للمرحلة القروسطية حتى امتداداتها الكئيبة الراهنة…
و قد أدت محاصرة العقل و خنقه الى انتكاسة الفكر العربي و ضياعه في محاولة تحديد معالم المأزق التاريخي العام الذي نعيشه على تنوع مستوياته أي واقع الانحطاط الحضاري البائس و الذي يفضح عن أشدّ تمظهراته ايلاما بالنسبة لذواتنا المفكرة في أرتودوكسية العقل العربي المتشظي بفعل الاختراق الحضاري و الثقافي الغربي الى عقول مغالية في سلفيتها و كليانياتها و صيغ خطابها التكفيري البدعوي داخل مجموعة نصية مغلقة على ذاتها…
لكن ما الذي أنتج هذه الحالة من الارهاب الثقافي و أغرق الحقل الفكري العربي في حمام كربلائي دموي و رمزي…؟
إن انتماء المتكلم الايديولوجي و الذي يرى نفسه مالك الحق في الكلام وحده لا شريك له و احتمائه بحضن دفاعي غير ثقافي يصبغ عليه الحماية و التواطؤ // التضامن الوظيفي على قاعدة النفي الدؤوب للامكان و الانوجاد خارج الجماعة / مضارب القبيلة على هامش التواصي بالحق…التعاقد الالزامي على الحياة / البقاء و حسن البقاء و كل ما اتصل به من نصوص / أنظمة فكر / تشكيلات / أبنية للمعنى / متواترة و منفصلة و متصلة / ملتئمة حول ثوابيتها / مؤسسات راسخة في قمعها المنظم …و من قيم تخريسية / متداولة في ” اليقينيات” تمجّد و تبرر التنكر المفضوح للنقدي…العقلي…التاريخي…بفعالية و نجاعة فريدة و التي تهددهم بخراب نصوصهم…يوتوبياتهم …و تخلخل برد يقينهم…
إن ” مالك الحقيقة الاوحد” و الذي لا يُنتقد و لا حقائق أخرى تزاحم حقيقته اليتيمة حولت الثقافة العرببة الى ” شرطة ايديولوجية” تنظّم المراقبة و العقاب حتى الاذن بقطع الرقاب.
إن المصير المأساوي الذي لقيه المفكر الراحل د.حسين مروة و المفكر فرج فودة و المطاردات التي تقتفي أثر د. نصر حامد أبو زيد…و إقامة خيرة مفكرينا في الغرب هروبا من القتل و الصدام العنيف مع القطيع تصف العربي بشيء واحد ….بالعار و العار فقط…فلا غرابة أن يفتّشنا الآخر في مطاراته كحيوانات رخيصة…أن يسخروا منّا…يحتقروننا….يطردوننا….يلعنوننا …يتهموننا بالارهاب و نحن نذبح خيرة ما عندنا من البشر…أصحاب الفكر…فلا غرابة أن يعلنوا علينا الحروب و القتل و نحن أحبّاء الموت…القابلين للتفجير و الانفجار في أية لحظة…تحت مسمّيات عدة مسكونة بهاجس رسالي…و هذا الهوس الذي يستبدّ بقطاعات عريضة من المثقفين العرب بسبب تضخم النزعة الخلاصية لديهم حيث تزدهر عندهم ثقافة دعوية تبشيرية…مصممة تصميما لأداء دور معلوم : التحشيد و التجييش و صناعة الجماهير…جمهور الدعوة…و هذه الدعوة لا تنتمي الى ميدان المعرفة بما تقتضيه نظريات المعرفة الحديثة و المحدد في حقل العلوم الانسانية حيث تقدم ادراكا للعالم و تصورا عنه …انما تنتج مواقف منه في ارتباكات لغوية استنهاضية للتجييش الايديولوجي لينتعش جمهور العرفان لا البرهان فنجد أنفسنا أمام مقتطفات خطابية وجدانية….
أم يحن الوقت بعد لتقف الجماهير تحمي نخبها الفكرية…و التي أحببنا أم كرهنا…بناة حضارتها و ندّيتها أمام الاخر لتكون جدارا عازلا عن تقتيل و تكفير ومطاردة نخبها…و الكفّ عن اللامبالات المفرطة تجاه الذات المفكّرة بتعايش سلبي و ساذج مع ما يهدد المفكر من تتبعات قهرية دموية اذا ما اصطدم نقديا و عقليا مع طاغوت المغلقات و مجمل الاكراهات الايديولوجية و الثقافية بالمعنى الانتروبولوجي للكلمة….؟؟؟
أم أن عشائر الطوائف و الطاعة محكومة بسيادة ضرورية للعشب و الكلأ و السباخ و الخيام في قفار الوجود باعتبار الخبز و البطن و ما جاوره هو الرهان الاولي و الضروري للبقاء…حسن البقاء….ذلّ البقاء…ليس مهما كثيرا…المهم البقاء هو الاساس…حينها لن يجد المفكر و الذي كثيرا ما قدّس الشعب الكادح و المضطهد….. متكأ الى جدار من القشّ…يدفعه الى الجنون…الصمت في أحسن الحالات…أو طلب اللجوء الفكري في أي مكان من أرض الله الواسعة احتجاجا حضاريا على بربرية ما يقترف في حق عقله.

عن فاطمة الطرابلسي

كاتبة و مفكرة تونسية مؤسّسة موقع فاتاليس-ماغ

شاهد أيضاً

الرايتسكون 2020: بين طرح معضلة الفساد و دور الشبكات الاجتماعية و المنظمات الحقوقية في المراقبة

الرايتسكون 2020: بين طرح معضلة الفساد و دور الشبكات الاجتماعية و المنظمات الحقوقية في المراقبة